نزهة في الزمن الجميل

نزهة في الزمن الجميل


كنت أجلس بقربها و أستمتع بالنظر إليها و هي تُمشِّط شعرها الطويل الأسود كظلام اللّيل الحالك، الناعم كالحرّير، تمدّده على طول جسدها
و تربط أطرافه في إصبعي قدمها، تسرّحه و كأنها عروسُ بحرٍ تعزف على آلة الهارب (القيثارة
 تغني و كم كان يطربني صوتها الدّافئ الحنون، كنت أقلّدها و أفك ضفائري الطويلة و أمدّد شعري مثلها، لكنه لا يصل إلى أخمس قدمي،
فقد كانت تنقصه بعض السنتيمات، و رغم ذلك أحاول و أُجهد نفسي حتى يؤلمني رأسي لأدرك حينها أني عبثاً أحاول،
فتنظر إليّ جدّتي الحبيبة و تبتسم و تضعني بين يديها و بكل رقة و حنان تمشط شعري مواصلة غناءها،
 حتى أستسلم و أنام بين ذراعيها....
كم أشتاق لها و أحّن لزمنها الجميل أسكنها الله فسيح الجنان و طيّب ثراها.
 
حتى يقلّل من حدّة البرد القارص و لكبره في السّن، كان يرتدي رداءً من الوبر به قبعة تتدلى على ظهره المنحني قليلا من أثر السنين،
 كان يمّد يده خلف ظهره ليضعها في تلك القبعة و يخرج منها بعض الحلوى لكل من كان يجيب إجابة صحيحة في القسم
و حتى للذي لم يوفق في الإجابة فطيبته تعدّت كل الحدود..
لكن كان بدل أن يخرج الحلوى كان يفتح يده أمامنا ليجد كومة من الأوراق و الطباشير و الذي يخطر و لا يخطر على بال أحدهم (ليس عباس طبعا
كان يرمي بكل ذلك و يبتسم في صمت و يعيد الكرّة دون أن يغضب أو يتذمر بل أكثر من ذلك كان يقول:
 "سبحان الله مع أني متأكد أني وضعت فقط الحلوى و لا أعلم من أين جاء كل هذا الخير؟!".
 رغم أنه كان يعلم أننا نحن من كنا ننتهز كل الفرص في غفلة منه و نضع تلك الأشياء في قبعته لأن الأمر كان ممتعاً 
إلاّ أنه كان يتغافل و كان يستمتع لذلك أيضاً..
 كان هذا أستاذ اللّغة العربية الذي وصلني أنه التحق بالرّفيق الأعلى منذ سنوات طيبّ الله ثراه و أسكنه فسيح الجنان.
 
تحرس دوماً أن تكون أوّل المتواجدات في المدرسة الخاصة بالبنات -التي زاولت فيها مرحلتي الإبتدائية
تتابع بنفسها كل الأمور و جميع شؤونها، تعاملنا كبناتها و ليس كتلميذاتها، تعرف متى تحّن و متى تقسو علينا،
تشعر بأحزاننا و تقاسمنا أفراحنا و تسعى لإسعادانا و لو على حسابها... أتذكر يوماً دخلنا القسم فرأيناها تضع رأسها بين يديها،
فلما رأتنا رسمت إبتسامة على وجهها الشاحب، و الذي من خلاله كان يبدو أن الإرهاق و المرض نالا منه..
 و رغم ذلك كانت حاضرة من أجلنا...
وزّعت علينا أوراق أسئلة الإمتحان و هي تتمنى لنا التوفيق، لم نهتم بما وضعت بين أيدينا أكثر من اهتمامنا بتحركاتها و نظراتها الذابلة كزرع جفت تربته من الماء...
خيّم الصمت في القسم و هي واقفة في وسطه كالصقر تترقب كل تحركاتنا حتى انتهى الوقت الرّسمي، جمعت الأوراق المتبقية و خرجنا جميعاً نراجع ما حدث،
و ما هي إلاّ لحظات حتى سمعنا صوت سيارة الإسعاف يدوّى أرجاء المدرسة جاءت تنقل معلمتنا التي أغمي عليها لشدة مرضها،
حينها فقط علمنا أنها كانت تعاني من ظروف صحية قاسية لكنها لم تشأ أن تتركنا حتى في أحرج حالاتها...
رغم أن المشهد كان مؤثراً إلا أنه يبقى من الزّمن الجميل؛
 أين كان المعلم رمزاً للتضحية و عنواناً للعطاء و يستحق كل الإحترام و التقدير.
إطمئنوا هي ما تزال على قيد الحياة و لم تمت أطال الله في عمرها و أعماركم جميعاً أحبتي في الله.
~~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~~
ما أزال أتذكر ضحكته التّي تزيّن محيّاه -الذي غيّرت التجاعيد ملامحه- و التي كنت نادراً ما أراها،
 فبالرّغم من طيبته معي و عطفه عليّ إلاّ أنه كان قاسي الملامح و الطباع.
كم أشتاق له و ليده الخشنة القوّية التي أحسها على رأسي كنسمة هواء عليل تداعب شعري في حنان،
 كم أشتاق لحكاياته و مغامراته عن الثورة و كم أرغب في أن أشكو له همومي و أحكي له عن أحوالي.
شوق يجتاحني و حنين لزمنه الجميل،
إشتقت لك جدّي الغالي،
 رحمك الله و طيّب ثراك و غفر لك و لنا.





إجتمعنا حول ميمة و هي تسرد لنا حكايات و أساطير زمان، فشردت بذهني لدرجة سمعت صوت جدتي رحمها الله و أسكنها فسيح الجنان
حين كانت تقّص لنا حكاياتها و نحن صغاراً و تروي لنا مغامرات لقرع بوكريشة و شمس بين حيطين و ودعة جنّاية سبعة و أحجيات أخرى كثيرة توقض كل نعسان
تذكرت كيف كانت عندما تتعب تخلط الرّوايات ببعضها البعض فتقّص لنا من كل رواية شطرا أو مشهدا لا يتوافقان و لا يجتمعان
و تنسج لنا سيناريو مجهول المعالم يجعلنا نحلّل كل كلمة تقولها و نرّكز معها و لا نفهم في أي حكاية نحن أو في أي زمن من الأزمان ههههه
غير أننا كنا جدّاً نستمتع بذلك و نضحك و نقبلها في هدوء 

و نتسلل بهدوء لغرفنا حتى لا نزعجها و نتركها تكمل تمتماتها و تخاريفها و نستسلم نحن بدورنا لأوامر السلطان

Post a Comment

0 Comments